من السلبيّات المتأصلة في العلمانيين أو "المتعلمنين" عندنا أنهم وجّهوا أنفسهم ووجدانهم و مشاعرهم و جهودهم نحو البحث عن عيوب و عورات المتمسّكين بالدّين من بني جلدتهم ، فيتهمون الداعين الى التمسك بالاسلام بالمتاجرة بالدين ثم ينتقلون الى المتدينين من عامّة الناس فيتهمونهم بالسطحية و الغوغائية و التبعية، وهذه العيوب التي يبحثون عنها منها ماهو موجود فعلا فيضخمونها و يبرزونها و ينفخون فيها و منها ما هو غير موجود فيختلقونها و يتوهمونها الى درجة أنهم جعلوا من هذا الأمر شغلهم الشاغل بل تعداه عند بعضهم الى ان أصبح محورا لحياتهم ، يحدث هذا عندنا للأسف و هم على عكس علمانيي الغرب الذين وجهوا جهودهم و أحاسيسهم و ضمائرهم نحو تطوير مجتمعاتهم و تحسينها وأقول هنا عن قناعة أنه لولا العلمانية و تخلص النصارى من قيود الكنيسة لما تطور الغرب و لما وصل الى ما وصل اليه و لكن هل ينطبق الأمر علينا كمسلمين ؟
في اوربا ، المشكلة لم تكن في رجال الدين "الأقوياء" المتسلطين الذين يريدون بسط نفوذهم على كل مجالات الحياة ، بل كانت في الدين الضعيف الذي أضعفه سلفهم بالتجرؤ عليه بالانتقاص و الزيادة و التحريف و التشويه الى درجة ان وصل الى منافاة العقل ( الانجيل ) ، فهل ينطبق الأمر على قرآننا ؟
كثير من المتعلمنين في بلادنا يتجرؤن بكل راحة ضمير على كل شيوخ الدين وو يضعونهم في سلة واحدة و يحملونهم كل مصائب المجتمع بل و يتجرأون كذلك على ماجاء في السنة فتجد منهم من يستهزئ بأحاديث ثبتت صحتها و سندها عن النبي صلى الله عليه و سلم وفق قواعد علم الحديث و حجتهم في ذلك أن النبي لا يمكن ان يقول بعض مالم يتوافق مع هواهم ، خاصة و ان ناقلي تلك الاحاديث هم من البشر و قد يخطئون و ينسون و يلفقون و يكذبون . وأخال أن هؤلاء لو وجدوا منفذا ينفذون منه الى التشكيك في القرآن لفعلوا و لكنهم لا يفعلون ، ثقة في قرارة أنفسهم ان ماجاء في القرآن هو الحق من عند ربهم و لكنهم يكابرون ، فهل سيرتاح ضمير أحدهم بالتجرؤ على ما جاء في القرآن و مما جاء فيه أن الانجيل محرّف ؟ فانكار تحريف الانجيل هو انكار للقرآن ذاته و التسليم بالقرآن هو تسليم بتحريف الانجيل فهل يجوز الاسقاط الذي يحاول المتعلمنون جرّنا اليه ؟ و الذي مفاده أن من اراد التطور و الرقي من المسلمين فليتخلص من قيود الدين الاسلامي "السليم" و الذي وصلنا كاملا تامّا ، تماما كما تخلص الغرب من قيود الدين المسيحي "المحرف" و الذي وصلهم بالزيادة و النقصان و مناقضة العقل ؟
و اذا سلمنا أن الله خلق لنا عقولا لنستخدمها و نفكر بها كما يأمرنا في قرآنه (أفلا تعقلون - افلا يتدبرون - افلا تعقلون - أفلا تبصرون - أفلا تنظرون ... ) و كما يدعوننا هم دائما اليه ، هل يمكن لهذا الإله أن يفرض علينا دينا ينافي هذا العقل ؟
ثم اذا قرأنا القرآن وجدناه يتجدث عن كل شيئ في حياتنا ، بداية بالعقيدة و السياسة و الحكم و الحرب و الاجتماع و الأسرة و انتهاء بالطهارة و التيمم بل و حتى الجماع ، فهل يجوز أن نغلق على كل هذا بين جدران أربعة في مسجد أو دير لأن المتعلمنين لا يرون للدين دورا خارج المساجد ؟
ثم لماذا التطرف في نبذ بعض تصرفات المسلمين أو اتهامهم بالتخلف و الرجعية و الارهاب فقط لظهور شيئ من العصبية أو العنف في تصرفاتهم في مقابل التفنن في مدح نهضة الأروبيين و التغني بما وصلوا اليه من تحرر و رقي الى درجة الملائكية
ولأن التاريخ لا يجامل أحدا أضرب مثالا هنا عن الثورة الفرنسية
الثورة الفرنسية في مقياس المتعلمنين هي أرقى و أعظم و أكبر ثورة و هي ملهمة جميع الأروربين و دافعتهم نحو التحرر و المثال هذا مفيد جدا لأن من ابرز نتائج تلك الثورة هو الفصل النهائي للدين عن الدولة ،و ربما نفس القناعة يتقاسمها كثير من الغربيين ، لدرجة أنك بمجرد ان تكتب كلمة ثورة بأي لغة في محرك غوغل لأقترح عليك مباشرة الثورة الفرنسية كأول اقتراح
و لا شك أن لا أحد من "أشراف" العلمانية عندنا يخفى عليه تاريخ "منبر" كهذا ، فهذه الثورة "المنيرة" التي قامت لتُرسي مبادئ الأخوة و الحرية و المساواة يجب أن تلهم الجميع .
ولكن سؤالا ربما لم يسأله أحدا نفسه من قبل ... هل يوجد في العصر الحديث ثورة أكثر دموية و كراهية و انتقامية بين أبناء العرق الواحد من الثورة الفرنسية ؟ فمبدأ "الأخوة" لم يمنع حدوث ما حدث . و فرنسا المتحررة في نهاية القرن الثامن عشر تحتل في بداية القرن التاسع عشر نصف العالم بالقوة ( ومنهم شعوبنا التي ينتمي اليها هؤلاء ) و مبدأ "الحرية" لم يمنع حدوث هذا ! ثم تأتي فرنسا الراقية و تمتهن شعوب تلك الدول و تذلهم و تحملهم على تغيير لغتهم و دينهم بالقوة ثم تستخدم الواحد منهم كعبد أو ربما كخماس ان كان محظوظا و قد يكون جد أحدهم من هؤلاء ، ممن لم تتساو بشريتهم مع بشرية العرق "الراقي" ، ومع هذا لم بشفع مبدأ "المساواة" لهؤلاء و لم يمنع حدوث هذا . فعن أي رقي يتحدثون ويتوهمون ؟
و ان سلمنا بما جاءت به هذه الثورة من خير على اصحابها فإن هذا الخير كان حكرا عليهم وحدهم ، على حساب بشر آخرين ، فطريق تحضرهم كان وبالا و تحطيما للآخرين و لم تقم لهم قائمة الا بما اغتصبوه من موراد بشرية و طبيعية بهمجية و بربرية أسوأ مما ينكره علمانبونا على بني جلدتهم الآن
و ما نراه اليوم من سوء في المسلمين قد يتمتع المتعلمنون بذكره و نعتهم به ، أغلبه نتيجة لقرن أو يزيد من الاستعمار و الاستدمار و التجهيل و الاستحمار و الاستركاب و النهب و الاستحلاب ، سببه "رقاة" الغرب العلمانيين و نتيجته رقي ماديّ هناك و دمار هنا
بالتأكيد سيسعدهم ان لا يصنفهم الاوروبيون "الملائكة" المتحضرين مع بقية هذه الشعوب المتخلفة البهائمية فيتخذون تلك المواقف ، لكن هل يظن أحدهم أن بمواقفه تلك سيظهر راقيا ؟ لا والله بل سيصنف كل ذلك في باب تأثر المغلوب بغالبه و تقليده له و ربما استرضائه و حسب قانون علم الاجتماع الذي يتفق عليه العرب و العجب و يتفق عليه المتقدمون و المتأخرون أن من موانع تطور الشعوب هو فقدان انتمائها وهويتها و عصبيتها ( العصبية الايجابية ) ثم التأثر العميق و الأعمى بالغالب ، و لكن ماعسانا نفعل وهذا طبع البشر ؟ فمهما تغير الحال سيبقى أمثال هؤلاء موجودون بيننا الى ان يظهر الحق أبلجا.